فصل: تفسير الآيات (12- 14):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7)}.
سار موسى بأهله من مدين شعيب متوجهًا إلى مصر، ودَجَا عليه الليلُ، وأخذ امرأتَه الطَّلْقُ وهَبَّت الرياحُ الباردة، ولم يورِ الزَّنْد، وضاق على موسى الأمرُ، واستبهم الوقتُ، وتشتتت به الهمة، واستولى على قلبه الشغل. ثم رأى نارًا من بعيد، فقال لأهله: امكثوا إنِّي أبصرتُ نارًا. وفي القصة: إنه تشتت أغنامُه، وكانت له بقور وثيران تحمل متاعَه فشردت، فقالت امرأتُه:
كيف تتركنا وتمضي والوادي مسبع؟!.
فقال: امكثوا، فإني لأجلكم أمضي وأتعرف أمرَ هذه النار، لَعَلِّي آتيكم منها إِمَّا بِقَبَسٍ أو شعلةٍ، أو بخبرٍ عن قوم نُزُولٍ عليها تكون لنا بهم استعانة، ومن جهتهم انتفاع. وبَدَتْ لعينه تلك النارُ قريبةً، فكان يمشي نحوها، وهي تتباعد حتى قَرُب منها، فرأى شجرةً رطبةً خضراءَ تشتعل كلُّها من أولها. إلى آخرها، وهي مضيئة، فَجَمَعَ خُشَيْبَاتٍ وأراد أن يقتبس منها، فعند ذلك سمع النداءَ من الله لا من الشجرة كما تَوَهَّم المخالِفون من أهل البدع. وحصل الإجماعُ أَنَّ موسى سمع تلك الليلة كلامَ الله، ولو كان النداء في الشجرة لكان المتكلم به الشجرة، ولأجل الإجماع قلنا: لم يكن النداء في الشجرة وإلا فنحن نجوَّز أن يخلق الله نداءً في الشجرة ويكون تعريفًا، ولكن حينئذٍ يكون المتكلم بذلك الشجرة.
ولا يُنْكر في الجواز أن يكون الله أسمع موسى كلامه بإسماع خلقه له، وخَلَقَ كلامًا في الشجرة أيضًا، فموسى سمع كلامَه القديم وسمع كلامًا مخلوقًا في الشجرة... وهذا من طريق العقل جائز.
{فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8)} أي بورِكَ مَنْ هو في طلب النار ومَنْ هو حول النار.
ومعنى بورِكَ لَحِقَتْه البركةُ أو أصابته البَرَكةُ والبركةُ الزيادةُ والنَّماءُ في الخير.
والدعاء مِنَ القديم- سبحانه- بهذا يكون تحقيقًا له وتيسيرًا به.
{يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)}.
الذي يُخَاطِبُكَ أنا اللَّهُ {الْعَزِيزُ} في استحقاق جلالي، {الْحَكِيمُ} في جميع أفعالي.
{وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ}.
في آية أخرى بَيَّنَ أنه سأله، وقال له على وجه التقرير: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه: 17] وأجابه بقوله: {هِىَ عَصَاىَ} [طه: 17] وذَكَرَ بعضَ مَا لَه فيها من المآرب والمنافع، فقال الله: {وََألْقِ عَصَاكَ}، وذلك لأنه أراد أَنْ يُرِيَه فيها من عظيم البرهان ما يجعل له كمالَ اليقين.
وألقاها موسى فَقَلَبَهَا اللَّهُ ثعبانًا، أولًا حيةً صغيرةً ثم صارت حيةً كبيرةً، فأوجس في نفسه موسى خيفةً وولَّى مُدْبِرًا هاربًا، وكان خوفه من أن يُسَلِّطَهَا عليه لمَّا كان عارفًا بأن الله يعذِّبَ مَنْ يشاء بما يشاء، فقال له الحقُّ:
{يَا مُوسَى لاَ تَخَفْ إِنِّى لاَ يَخَافُ لَدَىَّ الْمُرْسَلُونَ}.
أي لا ينبغي لهم أن يخافوا.
{إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)}.
وهذا يدلُّ على جواز الذَّنْبِ على الأنبياء عليهم السلام فيما لا يتعلق بتبليغ الرسالة بشرط تَرْكِ الإصرار. فأمَّا مَنْ لا يُجِيزُ عليهم الذنوبَ فيحمل هذا على ما قبل النبوة.
فلمَّا رأى موسى انقلابَ العصا عَلِمَ أَنَّ الحقَّ هو الذي يكاشفه بذلك.
ويقال: كيف عَلِمَ موسى- عليه السلام- أَنَّ الذي سمعه كلامُ اللَّهِ؟
والجواب أنه بتعريفٍ منه إياه- ويجوز أن يكون ذلك العلم ضروريًا فيه، ويجوز أن يكون كَسْبيًا، ويكون الدليل له الذي له الذي به عَلِمَ صِدْقَه في قوله: {إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ} هو ما ظهر على يَدِهِ- في الوقت- من المعجزة، من قَلْبِ العصا، وإخراج يده بيضاء. اهـ.

.تفسير الآيات (12- 14):

قوله تعالى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أراه سبحانه هذه الخارقة فيما كان في يده بقلب جوهرها إلى جوهر شيء آخر حيواني، أراه آية أخرى في يده نفسها بقلب عرضها الذي كانت عليه إلى عرض آخر نوراني، فقال: {وأدخل يدك في جيبك} أي فتحة ثوبك، وهو ما قطع منه ليخيط بعنقك {تخرج} أي إذا أخرجتها {بيضاء} أي بياضًا عظيمًا نيرًا جدًا، له شعاع كشعاع الشمس.
ولما كان ربما وقع في وهم أن هذه الآفة، قال: {من غير سوء} أي برص ولا غيره من الآفات، آية أخرى كائنة {في} جملة {تسع آيات} كما تقدم شرحها في سورة الإسراء وغيرها، منتهية على يدك برسالتي لك {إلى فرعون وقومه} أي الذين هم أشد أهل هذا الزمان قيامًا في الجبروت والعدوان؛ ثم علل إرساله إليهم بالخوارق بقوله: {إنهم كانوا} أي كونًا كأنه جبلة لهم {قومًا فاسقين} أي خارجين عن طاعتنا لتردهم إلينا.
ولما كان التقدير: فأتاهم كما أمرناهم فعاندوا أمرنا، قال منبهًا على ذلك، دالًا بالفاء على سرعة إتيانه إليهم امتثالًا لما أمر به: {فلما جاءتهم آياتنا} أي على يده {مبصرة} أي سبب الإبصار لكونها منيرة ظاهرة جدًا، فهي هادية لهم إلى الطريق الأقوم هداية النور لمن يبصر، فهو لا يخطىء شيئًا ينبغي أن ينتفع به {قالوا هذا سحر} أي خيال لا حقيقة له {مبين} أي واضح في أنه خيال {وجحدوا} أي أنكروا عالمين {بها} أي أنكروا كونها آيات موجبات لصدقه مع علمهم بإبطالهم لأن الجحود الإنكار مع العلم.
ولما كان الجحد معناه إنكار الشيء مع العلم به، حقق ذلك بقوله: {واستيقنتها} أي والحال أنهم قد طلبوا الوقوف على حقائق أمرها حتى تيقنتها في كونها حقًا {أنفسهم} وتخلل علمها صميم عظامهم، فكانت ألسنتهم مخالفة لما في قلوبهم، ولذلك أسند الاستيقان إلى النفس.
ثم علل جحدهم ووصفهم لها بخلاف وصفها فقال: {ظلمًا وعلوًا} أي إرادة وضع الشيء في غير حقه، والتكبر على الآتي به، تلبيسًا على عباد الله.
ولما كان التقدير: فأغرقناهم أجمعين بأيسر سعي وأهون أمر فلم يبق منهم غير تطرف، ولم يرجع منهم مخبر، على كثرتهم وعظمتهم وقوتهم، عطف عليه تذكيرًا به مسببًا عنه قوله: {فانظر} ونبه على أن خبرهم مما تتوفر الدواعي على السؤال عنه لعظمته، فقال معبرًا بأداة الاستفهام: {كيف كان} وكان الأصل: عاقبتهم، أي آخر أمرهم، ولكنه أظهر فقال: {عاقبة المفسدين} ليدل على الوصف الذي كان سببًا لأخذهم تهديدًا لكل من ارتكب مثله. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

أما قوله: {في تسع آيات}.
فهو كلام مستأنف، وحرف الجر فيه يتعلق بمحذوف، والمعنى اذهب في تسع آيات إلى فرعون، ولقائل أن يقول: كانت الآيات إحدى عشرة، اثنتان منها اليد والعصا، والتسع: الفلق والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمسة والجدب في بواديهم والنقصان في مزارعهم.
أما قوله: {فَلَمَّا جَاءتْهُمْ ءاياتنا مُبْصِرَةً} فقد جعل الإبصار لها، وهو في الحقيقة لمتأملها، وذلك بسبب نظرهم وتفكرهم فيها، أو جعلت كأنها لظهورها تبصر فتهتدي، وقرأ علي بن الحسين وقتادة {مُبْصِرَةً} وهو نحو مجبنة ومبخلة، أي مكانًا يكثر فيه التبصر.
أما قوله: {واستيقنتها أَنفُسُهُمْ} فالواو فيها واو الحال، وقد بعدها مضمرة وفائدة ذكر الأنفس أنهم جحدوها بألسنتهم واستيقنوها في قلوبهم وضمائرهم، والاستيقان أبلغ من الإيقان.
أما قوله: {ظُلْمًا وَعُلُوًّا} فأي ظلم أفحش من ظلم من استيقن أنها آيات بينة من عند الله تعالى، ثم كابر بتسميتها سحرًا بينًا.
وأما العلو فهو التكبر والترفع عن الإيمان بما جاء به موسى كقوله: {فاستكبروا وَكَانُواْ قَوْمًا عالين} [المؤمنون: 46] وقرىء {عليًا} و{عليًا} بالضم والكسر، كما قرئ: {عتيًا} و{عِتِيًّا} [مريم: 8، 69]، والله أعلم. اهـ.

.قال ابن عطية:

ثم أمر تعالى موسى بأن يدخل يده في جيب جبته لأنها لم يكن لها كم فيما قال ابن عباس، وقال مجاهد كانت مدرعة صوف إلى بعض يده، والجيب: الفتح في الثوب لرأس الإنسان، وروي أن يد موسى عليه السلام كانت تخرج تلألأ كأنها قطعة نور، ومعنى إدخال اليد في الجيب ضم الآية إلى موسى وإظهار تلبسها به لأن المعجزات من شروطها أن يكون لها اتصال بالآتي بها، وقوله: {من غير سوء} أي من غير برص ولا علة وإنما هي آية تجيء وتذهب، وقوله: {في تسع آيات}، متصل بقوله: {ألق} {وأدخل}، وفي اقتضاب وحذف تقديره نمهد ونسير ذلك لك في جملة تسع آيات، وهي العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمسة والحجر، وفي هذين الآخيرين اختلاف والمعنى تجيء بهن إلى فرعون وقومه.
{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13)}.
الضمير في قوله: {جاءتهم} لفرعون وقومه، و{مبصرة} معناه الإبصار والوضوح، وهذا على نحو قولهم: نهار صائم وليل قائم ونائم، وقرأ قتادة وعلي بن الحسين {مَبصَرة} بفتح الميم والصاد، وظاهر قوله تعالى: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم} حصول الكفر عنادًا وهي مسألة قولين هل يجوز أن يقع أم لا؟ فجوزت ذلك فرقة وقالت يجوز أن يكون الرجل عارفًا إلا أنه يجحد عنادًا ويموت على معرفته وجحوده فهو بذلك في حكم الكافر المخلد، قالوا وهذا حكم إبليس وحكم حيي بن أخطب وأخيه حسبما روي عنهما.
قال الفقيه الإمام القاضي: وإن عورض هذا المثال فرض إنسان ويجوز ذلك فيه وقالت فرقة لا يصح لوجهين:
أحدهما أن هذا لا يجوز وقوعه من عاقل، والوجه الآخر أن المعرفة تقتضي أن تحل في القلب، وذلك إيمان وحكم الكفر لا يلحقه إلا بأن يحل بالقلب كفر، ولا يصح اجتماع الضدين في محل واحد، قالوا: ويشبه في هذا العارف الجاحد أن يسلب عند الموافاة تلك المعرفة ويحل بدلها الكفر.
قال القاضي أبو محمد: والذي يظهر عندي في هذه الآية وكل ما جرى مجراها أن هؤلاء الكفرة كانوا إذا نظروا في آيات موسى عليه السلام أعطتهم عقولهم أنها ليست تحت قدرة البشر وحصل لهم اليقين أنها من عند الله تعالى، فيغلبهم أثناء ذلك الحسد ويتمسكون بالظنون في أنه سحر وغير ذلك مما يختلج في الظن بحسب كل آية، ويلجون في عماهم فيضطرب ذلك اليقين ويدفعونه في كل حيلة من التحيل لربوبية فرعون وغير ذلك، حتى يستلب ذلك اليقين أو يدوم كذلك مضطربًا، وحكمه المستلب في وجوب عذابهم، و{ظلمًا} معناه على غير استحقاق للجحد، والعلو في الأرض أعظم آفة على طالبه. قال الله تعالى: {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوًا في الأرض ولا فسادًا} [القصص: 83]. ثم عجبه تعالى من عقاب {المفسدين} قوم فرعون وسوء منقلبهم حين كذبوا موسى وفي هذا تمثيل لكفار قريش إذ كانوا مفسدين مستعلين، وقرأ ابن وثاب وطلحة والأعمش {ظلمًا وعليًا} وحكى أبو عمرو الداني عنهم وعن أبان بن تغلب أنهم كسروا العين من {عِليًا}. اهـ.